أن تكون عاملًا إنسانيًا في غزة، يعني أن تستيقظ كل صباح وقلبك يعلم أنه سينكسر من جديد.
حين بدأت هذا العمل، كنت أحمل بداخلي شيئًا من الأمل، وفرحة هادئة بأني أستطيع أن أُحدث فرقًا، ولو صغيرًا. كان في العطاء عزاء، وفي الامتنان راحة، وفي المعرفة بأنني أقدم شيئًا نافعًا ما يُخفف الوجع. لكن شيئًا فشيئًا، ومع كل خطوة أعمق في هذا الطريق، بدأت أرى بوضوح ما يصعب تجاهله: الفجوة الهائلة بين ما يحصل عليه الناس، وما يستحقونه، فقط لأنهم بشر.
دخل الحزن ببطء… ثم غمر كل شيء.
صارت الأسئلة تلاحقني، في صحوي ونومي. تذكّرت كلمات إدوارد سعيد: "سمِّ الأشياء بأسمائها، لتصبح كما يجب أن تكون." فكيف نُسمّي هذا الظلم اليومي؟ هذا اليأس الصامت؟ وهذه الصلابة التي وُلدت من الاضطرار لا من الاختيار؟ كيف نقول الحقيقة في عالم اعتاد أن يصمت عنها؟
نعيش في عالم يُكثر الحديث عن حقوق الإنسان. عالم وضع القوانين والاتفاقيات والمبادئ. عالم أنشأ هيئات مثل منظمات حقوق الإنسان، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، لضمان وصول المساعدات، ولحماية المدنيين، ولتصنيف استهداف الأطفال والمنازل والمستشفيات كجرائم حرب.
القانون الدولي واضح: موتنا ليس قدرًا… بل جريمة. وجوعنا ليس طبيعيًا… بل انتهاك.
ومع ذلك، نحن هنا. في غزة، لا شيء يتغير.
نحن جزء من هذا العالم. نحن بشر أيضًا. نستحق الحماية، والكرامة، والعدالة. لكن غزة ليست كبقية العالم. هنا، الموت يومي، والجرحى بلا دواء، والأطفال ينامون جوعى، والمسنون يتركون بيوتهم مرارًا، هاربين من موتٍ إلى موت.
حقوق الإنسان في غزة لا تُنتَهك فقط… بل تُمحى.
وبينما نحفر بأيدينا بين الركام بحثًا عن دواء، وبينما ندفن أطفالنا، يجلس العالم خلف طاولاته، يختار كلماته بعناية. تُخفف التصريحات كي لا تُحرج أحدًا، بينما تُزهق الأرواح في اللحظة نفسها.
هذه ليست مجرد إخفاقات دبلوماسية… بل انهيار أخلاقي كامل. كل لحظة تردد، كل كلمة مُخففة… تكلّف أرواحًا.
حتى الألم أصبح مشكوكًا فيه.
العالم لا يصدق وزارة صحتنا، ولا صور شهدائنا، ولا صرخات أطفالنا، ولا من ينتظر العلاج حتى الموت. ننتظر نشرات الأمم المتحدة لتتحدث عنا، وكأننا لا نملك صوتًا.
هم يذكرون الأرقام… ونحن نملك أكثر من ذلك: نملك الحكايات. نملك الصوت.
فهل من أحد لا يزال يُصغي؟ هل من أحد لا يزال يؤمن بنا؟
إن كنتم لا تفهمون إلا بلغة الأرقام: أكثر من 60,000 شهيد منذ بداية الحرب، بمعدل 130 شهيدًا يوميًا خلال الأشهر العشرة الأولى. أكثر من 40,000 طفل فقدوا أحد الوالدين أو كليهما. آلاف منهم قُتِلوا قبل أن تبدأ حياتهم أصلًا. مئات استشهدوا وهم ينتظرون المساعدة. وما يقارب 2 مليون إنسان اقتُلعوا من بيوتهم.
لكن بلغة القصص: قبل يومين فقط، وصلتنا أسماء ثلاثة أشقاء أيتام، أعمارهم بين السادسة والثالثة عشرة. كانوا على لائحة توزيع المساعدات صباحًا، لكن القذائف كانت أسرع… واستشهدوا قبل أن تصلهم الطرود الغذائية. لم يتبقَ أحد ليستلم الطرد.
هل نسمّي هذا "حادثًا مؤسفًا"؟ لا. هذه جريمة. هذا ظلم بكل معنى الكلمة.
هؤلاء الأطفال فقدوا والدهم في الحرب نفسها. كانوا جائعين. بلا حماية. وقبل كل شيء… كانوا أطفالًا.
كيف يتعايش العالم مع هذا؟ الحقيقة أنه لا يتعايش… بل يُدير وجهه.
لدينا الحق، كما قال إيلي فيزل: "نقيض الحب ليس الكراهية… بل اللامبالاة. ونقيض الحياة ليس الموت… بل اللامبالاة."
في غزة، تعلّمنا الحقيقة: نحن لا نكتب كي يُصفّق لنا العالم. نحن نكتب لنُسند بعضنا. لنتمسك ببعضنا. نبكي أطفالنا لأننا نحبهم، لا لأننا نبحث عن عناوين.
نحمل هذا الحزن ونسير به، لأنه جزء منّا. نعمل، لا فقط لنخدم، بل لنُصغي… لمن هم أكثر من أرقام. لمن يملكون حكايات تفيض وجعًا، وكرامة، وصمودًا.
ما زلنا نرجو أن نسمع يومًا قصةً بلا ألم.
وما زلنا نُسمّي الأشياء بأسمائها… لأن الحقيقة تستحق أن تُقال، حتى إن دُفنت تحت الأنقاض. لأن أرواحنا تستحق أن تُحترم، حتى لو أدار العالم ظهره.
لأننا نؤمن… أنه يومًا ما، سيصغي أحد.
وعندها، لن يسمع فقط أرقامًا… بل سيجد أصواتًا لم تتوقف عن الكلام، حتى في غياب المستمع.