في زمنٍ تزداد فيه محاولات طمس الذاكرة الوطنية وسرقة التاريخ، برزت منحة "السرديّة الفولكلورية الفلسطينية" كمبادرة ثقافية رائدة، أطلقتها مؤسسة التعاون عام 2021 بدعم من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، ليس فقط لتوثيق التراث الشفهي، بل لإعادة نسج الهوية الفلسطينية بالصوت والصورة والذاكرة.
من الحكاية إلى الأرشيف... مشروع متعدد الأبعاد
تمحورت أهداف المشروع حول توثيق القصص والحكايات الشعبية المرتبطة بالمواقع الأثرية الفلسطينية، لبناء سردية وطنية جامعة تُعيد وصل الأجيال بجذورها التاريخية، وتربط الرواية بالمكان والهوية. نُفذت المنحة من قبل خمس مؤسسات ثقافية وهي: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي – - رام الله، جمعية بسمة للثقافة والفنون- غزة، مركز الشموع الثقافي-الخليل، مؤسسة شغف للتعبير الرقمي- رام الله، ومؤسسة رواق- رام الله، ما أتاح توثيق واسع لمواقع متنوّعة في الضفة الغربية، غزة، والقدس وأراضي 48 ومخيمات الشتات في لبنان، بالشراكة مع 21 مبادرة محلية، وأسفر عن إنتاج 44 عملًا سمعيًا بصرياً، من أفلام بودكاست وفيديوهات وثائقية قصيرة، إضافة إلى توثيق أغانٍ فولكلورية من غزة.
تم اختيار المواقع والقصص بناءً على معايير تجمع بين القيمة التراثية للمكان، وشهادة المجتمع المحلي حول ارتباطه التاريخي والثقافي، مع مراعاة التنوع الجغرافي، وأولوية المناطق المهددة بالإزالة أو الإهمال.
نتائج ملموسة... وأثر مستدام
لم يكن المشروع مجرد عملية توثيق، بل فتح آفاقًا اقتصادية وإبداعية ملموسة:
• خلق 27 فرصة عمل دائمة، و230 فرصة مؤقتة للفنانين، الحكواتيين، الباحثين، والتقنيين.
• وصل عدد المستفيدين المباشرين إلى 1903 مستفيد/ة، والمستفيدين غير المباشرين إلى أكثر من 50,000 مستفيد/ة.
• شملت المواقع الموثقة قرى مهجّرة، خِرب، مقابر، كهوف، كنائس، مساجد، أسواق قديمة، وقلاع، ما جعل من كل فيديو وثيقة مقاومة في وجه النسيان.
غزة... حين تتحول الصورة إلى مقاومة
في قطاع غزة، وُثّقت مواقع أثرية مثل قلعة برقوق وكنيسة القديس برفيريوس والمقبرة الرومانية في جباليا، قبل أن تُدمّر جزئيًا أو كليًا بفعل العدوان. تحوّلت هذه الوثائق إلى ما يُشبه "صندوق نجاة"، حافظ على الذاكرة وحمى المكان من الإلغاء الرمزي والمادي. أن توثق قبل أن يُباد، هو في حد ذاته فعل مقاومة وطنية.
الأرشفة الرقمية... جسر نحو المستقبل
بعد جهد ميداني غني، انتقل المشروع إلى مرحلة ضمان حفظ هذا الجهد وتوفيره للأجيال القادمة وضمن رؤية استراتيجية للاستدامة من خلال الأرشفة الرقمية، عملت مؤسسة التعاون مع المتحف الفلسطيني على رقمنة وأرشفة مخرجات المشروع، لتُتاح عبر مكتبة رقمية تُخاطب الباحثين والطلبة والمهتمين، وتشكل مرجعًا ثقافيًا أصيلًا يعيد إحياء الحكاية ويوثق الذاكرة الجماعية. مجموعة "نرويها لتبقى"
ثقافة تُقاوم... وهوية تُروى
المشروع لم يقتصر على توثيق القصص، بل عزّز وعي الجيل الجديد بقيمة التراث، وشجّع العديد من المشاركين الشباب على التوجه نحو دراسة التاريخ الشفوي والعمل في الحقول الثقافية. كما ساهم في استنهاض المجتمعات المحلية وإعادة إحياء المواقع المهملة، لتصبح الحكاية بابًا للحماية، والذاكرة جدارًا في وجه التهميش.
ملاحظات تقييمية: مشروع متكامل وواعد
بحسب الدراسة التقييمية المستقلة التي أُنجزت في نهاية المشروع تميزت المبادرة بما يلي:
• انسجامها مع الخطط الوطنية الفلسطينية، وأهداف وزارتي الثقافة والسياحة.
• مساهمتها في بناء رؤية استراتيجية للمؤسسات الشريكة، وخلق مساحة جديدة للإنتاج الثقافي الفلسطيني محلياً وعالمياً.
• نموذج للتوثيق الرقمي المتعدد الوسائط، كمرجع يمكن البناء عليه في مشاريع مستقبلية.
• توفير أصول معرفية حية تُمكّن الباحثين والمهتمين من الاستفادة طويلة الأمد.
"من خلال مشاركتي في مشروع حدوتة خرب المسافر، استطعت المشاركة في معرض صور بورتريه في اسكتلندا في سبتمبر 2024 من خلال 25 صورة تتحدث عن قصة 25 شخص من مسافر يطا وتوثيقها بشكل بورتريه بترشيح من مركز الشموع وشبكة المصورين الفلسطينيين الأسكتلندية، تنقّل المعرض إلى أكثر من مدينة. هذا فتح لي فرصة لتوثيق قصص الناس ونقل صوت أهالي مسافر يطا للعالم الخارجي."
- محمد زواهرة، أحد المشاركين في مشروع حدوتة خرب المسافر.
رغم نجاح المشروع وتحقيقه لمخرجات نوعية، إلا أنه واجه عددًا من التحديات والدروس المستفادة، من أبرزها: صعوبة الوصول إلى بعض المواقع نتيجة الظروف الأمنية، وغياب أرشيف منظم سابق يُمكن الاعتماد عليه، إضافة إلى التحديات المرتبطة بتنفيذ الأنشطة في بعض المناطق المهمشة. ومع ذلك، تمكنت الفرق من تجاوز هذه العقبات بفضل التنسيق الميداني، مما يؤكد على أهمية وجود خطط مرنة وتمويل مستدام في مثل هذه المبادرات. كما أبرز المشروع أهمية إشراك الشباب والمجتمع المحلي، ليس فقط كمستفيدين، بل كشركاء فاعلين في توثيق الرواية وبناء المحتوى الثقافي، وهو ما ساهم في تعزيز الشعور بالانتماء والتمكين، وتحويل التجربة إلى عمل جماعي نابض بالمعنى.
نحو استمرارية التأثير... وتوسيع الأثر
أثبت مشروع "السرديّة الفولكلورية الفلسطينية" أهميته كأداة ثقافية وطنية تُحصّن الهوية من التلاشي وتُعيد الاعتبار للذاكرة الجمعية في وجه المحو المنظّم. ونظرًا لما حققه من نتائج نوعية على المستويين الثقافي والمجتمعي، ترى مؤسسة التعاون أن تكرار هذا النموذج وتوسيعه بات ضرورة ملحة. تسعى المؤسسة اليوم إلى اجتذاب تمويل جديد يتيح إعادة تنفيذ المشروع في مواقع فلسطينية أخرى، وتطوير أدواته وأساليبه، ليشمل نطاقًا أوسع من الحكايات والمواقع والأصوات، ويعزز مشاركة الأجيال الجديدة في الرواية، وليبقى التراث حيّاً، ومتجدداً.
خاتمة: لأننا نروي... نُوجد
44 حكاية مرئية جمعت بين الصورة والصوت، بين الحجر والحنين، وامتدت من مسافر يطا إلى الناصرة، ومن غزة إلى مخيمات لبنان. حكايات عن قلاع اندثرت، وأسواق تاهت ملامحها، ولكنها بقيت هنا… تُروى.
في كل مقطع، روح. وفي كل صوت، مقاومة ناعمة. المشروع لا يُنقذ التراث فحسب، بل يُعيد صياغته ليكون حيًّا، نابضًا، ومتاحًا للأجيال القادمة.
نحن لا نحفظ الماضي، نحن نمنحه مستقبلاً.
مشروع "السرديّة الفولكلورية الفلسطينية" هو أكثر من توثيق. هو استعادة للحق في الحكاية، وإعلان أن الوجود الفلسطيني لا يُقاس بعدد البيوت المهدّمة، بل بعدد القصص التي تُروى، وتُحفظ، وتُعلَّم.
في وجه المحو... نروي. وفي روايتنا، يظل الوطن حيّاً.